مقدمة في بناء عقلية فلسفية
في بحثنا هذا نهدف إلى بناء العقل الفلسفي من خلال الكشف عن أصول الفلسفة، وبيان موضوعاتها، كما نحاول التوصل إلى تصور أو رؤية كلية تتيح لنا تجاوز النظرة التقليدية، وإمكان تطويرها وتنميتها فكريا وواقعيا، ولاشك أن مهمة العقل الفلسفي ليست مستقلة عن كونه أسلوب فكري ونمط ثقافي، ومع ذلك تظل له خصوصيته من حيث رؤية المجتمع له في منظومة الواقع، ومن حيث طبيعة الاسئلة الفلسفية ذاتها. كما نهدف إلى فهم واستيعاب التحولات الكبرى على الصعيد العالمي وإنشاء مفاهيم حديثة للمساهمة في الثقافة الفلسفية والتوعية بطبيعة اسئلتها العامة والهامة.
ماذا نقصد بالفلسفة؟
ان الفلسفة من وجهة نظرنا هي التفكير في جميع شؤون الحياة من أجل إسعاد الإنسان وتحسين حياته العامة، وهذا آخر ما وصل إليه فلاسفة العصر الحديث وذلك بفضل رؤية نقدية تضع الأشياء والحياة والواقع موضوع التأمل والتساؤل والاحتواء. لم يستطع العلم المعاصر بكل تطوراته أن يحقق هذه الطفرات والإنجازات دون الاستعانة ببقية العلوم وخاصة الفلسفة وخاصة في نظرتها العميقة والشاملة. لقد تغيرت النظرة إلى الفلسفة كمنهاج فكري لا يمكن المساس بحرفيته أو الدخول الى مكنوناته واختلفت على أثرها وظيفة الفكر الفلسفي من عصر لآخر ومن مجتمع لآخر، تماشيا مع متطلبات الحياة، وهذا ما نود أن ننشره في بحثنا هذا ومن خلال هذه السلسلة. تأخذ الفلسفة مظهراً جديدا في كل عصر رغم ثبات مواضيعها القديمة لأنها أصيلة وجوهرية فلكل عصر حكمته التي تناسب ظروفه وواقعه وآماله وطموحه، إلى جانب اختراعاته وتقدمه العلمي والتكنولوجي وهذا مما يجعل أفق الفلسفة يتسع ومساهمتها في التوعية تزداد وحاجة البشرية إليها تصبح أكثر من ذي قبل.
ما علاقة الفلسفة بالوعي؟
حينما ترتقي الفلسفة بالوعي وتنمي القدرات العقلية المختلفة فإنها تمنحنا القدرة على المراجعة النقدية المستمرة لأعمالنا و لمعارفنا وقناعاتنا، بل وتجعلنا نتجاوز صعوبات الحاضر إلى آمال المستقبل. ومن خلال تنمية القدرات العقلية سوف تنمى العادات الفكرية والملكات الذهنية وذلك بالكم الهائل المتوفر الآن من المعلومات وينقصه التحليل والنقد والتجميع والتركيب وهذا ما تهدف إليه الفلسفة.
هل تقدم الفلسفة منتجا ملموساً؟
والعجيب أن الفلسفة لا تعطي منتجاً مباشرا ملموسا بين الناس وإنما هي العامل الرئيسي والمساعد لاشتعال جذوة الأفكار وشحذ الطاقات الهائلة للوصول إلى آفاق لم يكن من المتوقع أن تصل إليها البشرية في هذا الزمن القصير. ولذا فإن الفلسفة عند العامة من الناس لا تعني شيئا، وربما تعني أباطيل وترهات لا نفع من ورائها وذلك لعمقها من ناحية الطرح والتفكير وعامة الناس غير مهيئين لهذا، فيصعب عليهم فهمها والتماشي مع أطروحاتها ومسائلها، ومع ذلك فهم يمارسونها عمليا بطرح الأسئلة والاندهاش لكل جديد وهو أصل الفلسفة وما تنادي به.
هل التفكير الفلسفي تفكيراً شاملا؟
التفكير الفلسفي هو تفكير نقدي وشامل لكل جزئيات المسائل والعلوم وما يبنى عليه هو ما نشاهده من تقدم العلوم المختلفة بل والاختراعات المعاصرة، لأنه ببساطة يؤدي إلى الإبداع فكلما سألت وانتقدت وفكرت كانت الأجوبة العملية هي منتجات العلوم الأخرى واكتشافاتها. وما تقدمت الأمم الغابرة أو الحضارات الماضية إلا وكانت الفلسفة أحد ركائزها وأعمدتها الراسخة في التفكير والطرح والنقد والبناء ومن شاء فليراجع تاريخ هذه الأمم والحضارات. التفكير النقدي والفلسفي يحرر العقول من جمود المفاهيم وصلابة المصطلحات والآراء وهذا أول أسباب الرقي والتقدم والإبداع في أي مجال وأي علم من العلوم.
هل كانت الفلسفة غاية يوما ما؟
أبداً لم تكن الفلسفة غاية حتى لأكبر الفلاسفة أو المفكرين وإنما هي وسيلة تربط النظريات بالواقع وتطرح رؤية جديدة وتغيير في أنماط الفكر وتجديد في أساليب الممارسة حتى تصل الى مستقبل سعيد. لذا لم تعط الفلسفة كل شيء دوماً، وإنما كانت تساهم بقدر يعطي البشرية نافذة جديدة للخروج مما هي فيه من الآلام وتمدها بقدر من الوعي تحافظ به على مكتسبات عصرها وتزيد به من الوعي لما هو آت.
تبنى الفلسفة على الأسئلة فهل هذا صحيح؟
يقول ياسبرز: " الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة عليها بل إن كل إجابة يصبح بدوره سؤالا جديدا" وهذا ما يجعل حاجة البشرية إلى الفلسفة كحاجاتها الى الماء والهواء لأن الإنسان بطبيعته شغوف لمعرفة المزيد مما حوله ولا تتم هذه المعرفة إلا بالسؤال وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم (إنما دواء العي السؤال) والعي هنا بمعنى المرض والحيرة ودواء البشرية وحيرتها لا تشفى إلا بالسؤال وقد بنيت الفلسفة على السؤال.
هل هناك فرق بين سؤال الفيلسوف وسؤال العالم؟
وهناك فرق بين سؤال الفيلسوف وسؤال العالم، فسؤال العالم عن جزئيات تفصيلية يصل اليها بالتجارب العملية أما سؤال الفيلسوف فهو سؤال كبير عن كليات وكل إجابة كما ذكرنا تصبح بدورها سؤالا جديدا لكن مع كل إجابة يستطيع العالم أن يرى ويفكر فيما هو أنفع له ويعطيه تصورات وحلول كثيرة لمشاكله الآنية والمستقبلية فتكون أسئلة الفلاسفة نبع ابداع وابتكار تقع على يد علماء المجالات الأخرى .